الصحافة

تفاوض مع ميليشيا لا تريد شيئاً إلا السلاح

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

ماذا يريد "حزب الله" مقابل تسليم سلاحه؟ لا أحد يعلم.

كيف تفاوض من لا يريد شيئاً مقابل تخلّيه عما يمتلكه؟ لا أحد يعلم أيضاً.

صرّح رئيس الجمهورية حديثاً أنه سيجري "حواراً" مع قيادة "حزب الله" للبحث في مسألة سلاحه. لا شك أن الخطوة تحسب للرئيس عون، الذي نقل النقاش من صيغته الماضية المتمحورة حول "طاولات الحوار الوطني" السيئة الذكر إلى إطار جديد، تتفاوض فيه الدولة اللبنانيّة متمثّلة برئيسها مع تنظيم ميليشياوي لا غطاء رسمياً على وجوده المسلح، حتى لو كان معنوياً (بحكم البيان الوزاري لحكومة الرئيس سلام). وهذا إطار طبيعي له سوابق تاريخية في العديد من الدول حول العالم، ولو أن التعبير المستعمل (أي "الحوار") غير موفّق بحكم ارتباطه التاريخي بحوارات الرئيس البرّي التي كانت تهدف إما إلى تمرير الوقت واستيعاب موجات الاعتراضات الشعبية والسياسيّة، أو إلى الالتفاف على مسارات دستورية مؤسساتية مثلما حصل بالإصرار على "حوار وطني" يسبق انتخاب رئيس للجمهوريّة. كان يمكن للرئيس عون استعمال تعبير "التفاوض"، أو استبدله بكلمة "تشاور" حرصاً على عدم توتير ديناميكيات المسار المرتقب (نزع أو تسليم، النتيجة هي هي).

هذا في الشكل. أما في المضمون فالمسألة أكثر تعقيداً. فالمعضلة الأساسيّة في أي عمليّة تفاوض بين الدولة اللبنانيّة و"حزب الله" ليست صعوبة تلبية شروط التنظيم الميليشياوي، بل في غياب أي مطالب سياسيّة يعرضها "حزب الله" للتفاوض بشأنها. فبعكس التنظيمات المسلّحة السابقة والحالية حول العالم، لا يمتلك "حزب الله" أهدافاً سياسيّة عمليّة وموضوعيّة يسعى إلى تحقيقها من خلال نضاله المسلّح (لو كان الموضوع مرتبطاً بتحرير لبنان، لسلّم سلاحه في العام 2000). و هذا مردّه إلى أن "حزب الله" ليس تنظيماً عسكرياً انبثق من حزب سياسيّ، بل هو حزب سياسي تأسس من خلال ميليشيا. بمعنى آخر، "حزب الله" هو ميليشيا تمتلك حزباً وليس حزباً يمتلك ميليشيا. وإذا غضينا النظر عن الحجج التاريخيّة المعلنة والواهية لاحتفاظه بسلاحه بعد العام 2000 (مزارع شبعا الخ)، أو ما سرّب حديثا لوكالة "رويترز" عن استعداد "الحزب" للحوار (فقط) فور الانسحاب الإسرائيلي ووقف الضربات (الموضوع بالمقلوب!) نلاحظ أن أهدافه الأكثر مصداقيّة لا يمكن تلبيتها عبر أي عمليّة تفاوضيّة مع الدولة اللبنانيّة، لأنها ليست مرتبطة أصلاً بهذه الدولة، بالمعنى المؤسساتي أو حتى الجغرافي. فقد أسّس "حزب الله" كذراع من أذرع الحرس الثوري الإيراني في بداية الثمانينات، وهذه وظيفته الأساسيّة. أما أهدافه "العمليّة" فتتراوح ما بين إزالة إسرائيل من الوجود وصولاً إلى إنهاء "الهيمنة" الأميركية على منطقة الشرق الأوسط.

بالمعنى التاريخي، يشكّل "حزب الله" استثناء حتى مقارنة بالتنظيمات العقائديّة الأصوليّة. في جنوب أفريقيا، انبثق تنظيم ميليشياوي مسلّح من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) في العام 1961، وقد عرف باسم uMkhonto we Sizwe (رمح الأمّة). أسّسه القائد التاريخي للنضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وقد سعى لتحقيق الأهداف السياسيّة للحزب من خلال العمل العسكري. فاوض مانديلا حكومة جنوب أفريقيا بين عامي 1990 و 1993 على أساس مطالب واقعيّة، عمليّة ومعلنة: كتابة دستور جديد، تفكيك نظام الفصل العنصري، إرساء نظام ديمقراطي من دون خصوصيات اثنيّة، رفض الفيتوات الاثنيّة، ورفض الصيغة الفدراليّة. تكلّلت المفاوضات بنجاح وتنازل بموجبها فرعه المسلّح عن سلاحه وحل نفسه في احتفال رسمي في أواخر العام 1993 (كان قد علّق رسمياً نشاطه العسكري خلال المفاوضات). نتيجة ذلك حصلت أول انتخابات ديمقراطية في العام 1994، فاز فيها مانديلا بالرئاسة.

هذا النموذج لا يقتصر على الأحزاب - الميليشيات التي كانت طبيعة مطالبها "داخليّة" حصراً. في شمال أيرلندا كان الجيش الجمهوري الأيرلندي (Irish Republican Army) يخوض نضالاً عسكرياً ضد ما اعتبره "استعماراً بريطانياً" لجزء من الجزيرة الأيرلنديّة. كان يعتبر (ولو بشكل غير رسمي لأسباب قانونيّة) الذراع العسكريّة لحزب Sinn Fein، الذي قام مشروعه السياسي (بالحد الأقصى) على ضرورة عودة شمال أيرلندا إلى السيادة الأيرلنديّة وتوحيد قطري الجزيرة، وبالحد الأدنى على نظام طائفي تشاركي بالسلطة في شمال الجزيرة بموازاة علاقات "متميّزة" بين شمال الجزيرة وجنوبها. في العام 1998، تم توقيع ما عرف بـ "اتفاقية الجمعة العظيمة"، والتي تضمّنت مجموعة من التسويات بين مطالب الأطراف المختلفة، أهمّها دور رسمي لجمهورية أيرلندا بإدارة شؤون الشمال وحدود "مفتوحة" بين شقّي الجزيرة. وقد تم التوصل إلى صيغة للمسألة السياديّة، بحيث تبقى شمال أيرلندا ضمن السيادة البريطانيّة شرط موافقة أغلبيّة سكانها على ذلك في استفتاء شعبي يمكن إجراؤه مرة كل سبع سنوات (يرجّح تغيير هذه الأكثرية في العقد المقبل).

في الحالتين (وحالات كثيرة غيرها)، وجد في النصوص الرسميّة كما في كتابات كبار المفكّرين المرتبطين عقائدياً بالحزبين والميليشياتين التابعتين لهما، طروحات مفصّلة حول الثمن السياسي "المقبول" للتخلّي عن الخيار العسكري والانتقال إلى حصريّة العمل السياسي. وقد وجدت هذه النصوص والنقاشات حتى قبل نضوج الظروف الجيو - استراتيجيّة للتسوية (سقوط الاتحاد السوفياتي). لم تتصرّف أي من هذه الميليشيات يوماً على أن السلاح هدف قائم بحد ذاته، أو أن السلاح باق إلى حين "إزالة التهديد البريطاني" أو "عودة الجنوب أفريقيين من أصول هولنديّة إلى أوروبا". وطبعاً لم يتحدّث أي منهم عن ربط السلاح بمسائل إيمانيّة كظهور المهدي المنتظر، على حد قول أحد المتحدّثين غير الرسميين باسم "حزب الله" (لسخرية القدر، مسؤول "الحوار" في الحزب مع الأطراف المدنيّة). طبعاً لم يضع أي من الحزبين سلاحاً على علمه، أي انه ربط وجوده بوجود السلاح (هل يغيّر "الحزب" علمه بعد تسليم سلاحه؟).

اذاً ما نفع التفاوض مع حزب ليس لديه مطالب مقابل تسليم سلاحه؟ إن كانت المسألة "لوجستيّة" الطابع، أي أنها لتنسيق آليات تسليم السلاح، فلا بأس أبداً، ولكن ذلك يفترض أن قرار إنهاء العمل العسكري اتخذ، وتبقى ترتيبات تقنيّة يجب العمل عليها. وإن كانت لتمرير بعض الوقت، إلى حين نضوج نتائج المفاوضات الايرانيّة - الأميركيّة، فلا ضير أيضاً، على قاعدة أنه يمهّد الطريق لتنفيذ مقتضيات ذاك الاتفاق (شرط أن لا يمتّد التفاوض هناك لسنوات). أما إذا كانت غير ذلك فالمعادلة حينها تختلف: لن يفكّر "حزب الله" جدياً بماذا يريد إلا إذا اقتنع بأن الدولة (ومعها المجتمع الدولي) يمتلكان plan B للتعامل مع السلاح في حال الإصرار على التحايل والمماطلة. ربما حينها، نتلهى بضعة أسابيع بأفكار لا صلة لها بالواقع، وننتقل بعدها مباشرة، وبضمير مرتاح، إلى التنفيذ.

صالح المشنوق-نداء الوطن

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا